المادة    
السؤال: عندما قلتم إن من ارتكب الزنا، فإن قول القلب ما زال موجودًا عنده، مع أنه فقد عمل القلب، فلماذا لم نقل لمن ترك الصلاة: إنه فقد عمل القلب، وقول القلب ما زال موجوداً عنده؟ أرجو بيان ذلك مفصلاً وحكم تارك الصلاة؟ سواءٌ أكان منكراً أم تاركاً عمداً أم تاركاً تكاسلاً، وهل بعد دعوة تارك الصلاة مرات كثيرة وإصراره على الترك يقال: إنه كافر؟
الجواب: الموضوع الأول ليس هناك داع لأن نطيل فيه؛ لأننا قلنا: إن هناك أركان أساسية: الأركان الخمسة من الإسلام، والستة من الإيمان، فهذه أساسية وبفقد أحدها يفقد الإيمان أو الإسلام، وأما بقية الأشياء فهي واجبات، وتختلف عن الأركان الأساسية، وهناك -أيضاً- خلاف أساسي بين ترك المأمورات وبين ارتكاب المحرمات، فارتكاب المحرمات مهما كثر مع الإتيان بالأركان الخمسة فإن صاحبه يبقى مرتكباً لكبيرة، كما في حديث صاحب البطاقة -وكما تعلمون- أنه لم يعمل خيرًا قط، لكن عنده التوحيد فنفعه ذلك التوحيد، وحديث المذنب الذي يأتي بصلاة وصيام وزكاة، لكن الأعمال السيئة تأخذ كل ذلك حتى يطرح في النار، فالأحاديث كثيرة تدل على أن ارتكاب المحظورات جميعاً، ليس مثل ترك الواجبات جميعاً، بل ترك الواجبات جميعاً يخرج من الملة، ولو أن أحدًا لم يعمل من الواجبات شيئاً، فهذا لا يكون مؤمناً قط، لكن لو فعل المحرمات جميعاً ما عدا الشرك؛ فإنه لا يخرج من الملة، فهذا فارق أساسي بين شارب الخمر أو الزاني وبين تارك الصلاة.
أما قضية ترك الصلاة منكراً أو غير منكر، فإن كان المقصود بالإنكار أنه يقول: إن الله لم يوجب الصلاة، فهذا أصلاً قليلٌ جداً من يقول من المنكرين أو من المكذبين ذلك، فهل سمعتم أحدًا يقول: الصلاة ليست واجبة!
ولنأخذ مثالاً واضحًا، الذين تركوا الزكاة في عهد الصديق رضي الله تعالى عنه، هل قالوا: إن الله لم يفرض علينا الزكاة، وأنكروا الآيات التي نزلت في الزكاة؟ لا. ولو أنكروها ما احتاج أبو بكر إلى أن يقول: فرقوا بين الصلاة والزكاة، لأن من أنكر آيات في القرآن، ولو حرفًا واحدًا فإنه يكفر، لكنهم لم يلتزموا بها وأنكروا دفعها، فالذي يرفض أن يصلي فإنه يكفر، وإن كان مقراً بأن الصلاة واجبة، ولو قال: أنا أقول أنها واجبة لكن لا أصلي، فهذا مثله مثل من يقول: أشهد إنك رسول الله ويقاتله، أو مثل من يأخذ المصحف، ويقول: أشهد أن هذا كلام الله، ويدوس عليه برجله والعياذ بالله! وهذا أشد كفرًا.
ولهذا نقول: إن الكفر أنواع: منه كفر الإباء، ومنه كفر الجحود، وكفر الاستحلال.
وهذه هي العين التي نعرف بها حكم تارك الصلاة: كفر الإباء وكفر الجحود.
فكفر الإباء: كإبليس أُمر بسجدة واحدة، فقال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ))[الأعراف:12] واستكبر وأبى: ((إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ))[البقرة:34] فتركها عناداً ولم ينكر إبليس أن الله أوجب عليه السجدة، فمن قال أيضاً: لا أصلي، وامتنع عن أداء الصلاة، فهذا كفره من جنس كفر إبليس لما ترك السجود، ولذلك يوم القيامة إذا أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الناس أن يسجدوا، يأتي هؤلاء فإذا ظُهورهم كالخشب، كما جاء في الحديث الصحيح، وهذا من الأحاديث الدالة على أن تارك الصلاة يكفر كفراً ينقله من الملة.
أما كفر الجحود كمثل أن يقول: إن الله ما أوجب علينا الصلاة، ولو كان يصلي، فهذا كافر، أو يقول: الخمر حلال، ولو لم يشرب الخمر، فهذا كافر، فهذا نوع من الكفر.
فإذا جئنا بتارك الصلاة -كما يقول هذا السائل- وكرر عليه مرات ولم يصلِ هل نقول إنه كافر؟ نفرق بين الأحكام الظاهرة وبين الأحكام الباطنة؛ لأن هذه قضية خطيرة، فالأحكام الظاهرة تعطى لكل من أظهر شعائر الإسلام، وإن كان في حقيقته كافراً لا إيمان له، كما كان المنافقون يعطون أحكام الإسلام، فتارك الصلاة -مثلاً- الذي يعيش في المجتمع المسلم مع المسلمين، ويؤدي بعضاً ويترك بعضًا، أو لا يصلي بالمرة، نحن نعطيه الأحكام الظاهرة، فلو أنه مات وجيء به إلى المسجد فإننا نصلي عليه جميعاً، ولو أنني بذاتي أعرف أن هذا تارك صلاة ونصحته، وأصر على ترك الصلاة، فأنا بذاتي لا أصلي عليه.
إن أكثر أسباب الخلاف والشقاق بين الدعاة المعاصرين اليوم، ومما أوقع بينهم الجدل والخلاف وتشعب الآراء، وكذلك بين المتناظرين قديماً، هو عدم التفريق بين الأحكام الظاهرة والأحكام الباطنة، أي في إجراء الأحكام الظاهرة والأحكام الباطنة، فالقاعدة التي نقولها ونكررها: ليس كل من كان كافراً في الحقيقة أو في الباطن تجرى عليه الأحكام الظاهرة للكفار، وما دليل ذلك؟ نقول: أعظم دليل واضح، هو: حكم المنافقين في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم كفار في الباطن والحقيقة، ومع ذلك تجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهرة، فلا يلزم من القول بكفر امرئٍ ما باطناً، أن تجرى عليه أحكام الإسلام ظاهراً.
ولو أخذنا القضية التي سأل عنها السائل -تارك الصلاة- نقول: تارك الصلاة، الذي لا يصلي فعلاً، هذا بحسب معرفته، فإجراء الأحكام عليه، يختلف الحال بين زوجته -مثلاً- التي تعيش معه في البيت، والتي تعلم يقيناً أن هذا الزوج لا يصلي، وبين حال رجلٍ لا يعرفه من الناس، ولو ذهب وقابله في أي مكان لسلَّم عليه، ولو ذبح لأكل ذبيحته، ولو تكلم معه بكلام الإيمان أو الإسلام لخاطبه بذلك، فهذا رجل يختلف حكمه في حق زوجته التي يجب عليها شرعاً أن تطالب القضاء بإلغاء العقد، وألا تمكنه من نفسها؛ لأنه كافر بالنسبة لها، وبين الذي لا يعرف حقيقته من الناس، ومع ذلك يعامله معاملة المسلمين، فنحن أمرنا أن نجري أحكام الإسلام الظاهرة على كل من يدعي الإسلام في دار الإسلام، ولكن لا يعني ذلك أنهم في الحقيقة وفي الباطن وعند الله أنهم مؤمنون، فلو مات هذا الرجل فإن من كان يعرف حقيقته وأنه تاركٌ للصلاة بإطلاق، فإنه لا يصلي عليه بل يتركه، لكن إذا قدمت جنازة في المسجد صلى عليها أناسٌ كثيرون، فإن هذا يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، ويرث ويورث، بحسب الأحكام الظاهرة التي تجرى عادة، لكن لو تيقنا بأحد الأمرين، فإذا جيء بتارك الصلاة أو تارك أي ركن من الأركان إلى قاضي المسلمين الشرعي وناظره، بأن أقام عليه الحجة ثم امتنع عن أدائها، فحكم القاضي عليه بالقتل، فقتل، فنقول: هنا اتضح الحكم، هذا هو الذي لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين؛ لأن البينة قامت، واتضح لدينا الدليل بحكم القاضي، وكما تعلمون حكم القاضي أيضاً هو على الظاهر، أي ليس كل ما حكم به القاضي هو مطابق للحقيقة، لكننا أيضاً نحكم على الظاهر في هذه الحالة، فلا يجوز لنا أن نصلي عليه، ولا يجوز أن يرث ولا يورث؛ لأننا تيقنا أنه تاركٌ للصلاة فعلاً، وأنه قد قامت عليه الحجة، وقتل وهو لم يصلِ، فهذا كافر على الحقيقة.
وفي حالة الإنسان المجهول -كما قلنا- فهذا يظل كذلك، إنسان يؤدي فرائض ويترك فرائض، ولا يوجد أحد يتابعه، ويستقرئ حاله بالدقة وبالتفصيل، فهذا في الحقيقة مثل المنافقين الذين يدخلون في الإيمان ويخرجون منه، يدخلون في الكفر ويخرجون، ثم يعودون إلى الإيمان، فهم كما قال تعالى: ((مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ))[النساء:143] مرةً مع المؤمنين ومرةً مع الكافرين، فالحال التي يؤدي فيها الصلاة يكون مع المؤمنين، والحال التي يتركها يكون مع الكافرين، ولذلك حذيفة رضي الله عنه، لما أطلعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أسماء المنافقين بأعيانهم، فكان عمر ينظر، فإذا رأى حذيفة يصلي على فلان صلّى؛ لأنه معروف أنه غير منافق، وإن رأى حذيفة لم يصلّ، لم يصلّ، أما الصحابة الذين لا يعرفون عنه شيئاً، فإنهم يعطونه الأحكام الظاهرة، فيصلون عليه، ويرثه أولاده وزوجاته فيأخذ كل الأحكام الإسلامية الظاهرة، لكن هو في الحقيقة كافر ومنافق، ويعلم ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، وعلَّم ذلك حذيفة، وهو يعلمهم، ويعرفهم بأعيانهم.
فمن عرف هذه القضية زالت عنه الشبهة، وهو أننا عندما نقول: أن تارك الصلاة كافر، إذاً معنى هذا أنني إذا رأيت شخصاً لا يصلي وكلمته مرة بالصلاة ولم يصلِ، فنقول: أنت ما دمت لم تصل إلى الحقيقة وإلى البينة، فإنه لا يزال حكمه -عندك- أنه مجهول، ولا تعلم هل قامت عليه الحجة أو لا؟ وهل هو مواظب على أدائها تماماً أو مفرط فيها؟ فما دامت هذه الأمور والتساؤلات موجودة، فأنت تجري الأحكام الظاهرة التي يأخذها كل من يظهر الإسلام، وكل من يدعي الإسلام في دار الإسلام، فإذا جئنا -مثلاً- إلى من يذبح نأكل ذبيحته في دار الإسلام وهو يدعي الإسلام، فإن من البدع أن نقول: لا آكل إلا ذبيحة من تأكدت يقيناً أنه موحد، صحيح العقيدة.
فهذا أصلاً من الحرج الذي رفعه الله تعالى عن هذه الأمة، ومن حرَّجوا على أنفسهم بذلك، فقد خالفوا هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وعقيدة أهل السنة والجماعة؛ ولو مررت بأناس وهم يصلون في مسجد، فإنك تصلي وراءهم جماعة، ولا تقول: لا أصلي إلا خلف من تيقنت أن عقيدته صحيحة، لو فعلت ذلك وقلته لكان هذا من فعل أصحاب البدع، لا من فعل أهل السنة والجماعة.
إذاً نقول: الأحكام الظاهرة تختلف، فيمكن يكون هذا الإمام في الباطن أنه منافق، لكن لا نرتب على ذلك حكماً ظاهراً إلا على بينةٍ ويقين ظاهر، وأما الأحكام الباطنة فهذه بين العباد وبين ربهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعد أصحاب مسجد الضرار أنه يصلي فيه إذا رجع من تبوك؛ لأنه لا يعلم الغيب، ولكن لما أخبره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأن هؤلاء اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، وأمره بعدم الصلاة فيه، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتثل ذلك وامتنع عن الصلاة فيه وإن كان مسجداً، لكن بعد أن علم أنه مسجد ضرار ونفاق، فإنه لم يصلِ فيه.
وهكذا نحن ما دمنا لا ندري، فيمكننا أن نصلي في أي مسجد وراء أي إنسان، وهكذا الشيء نفسه في أصحاب البدع، فمن جاهر بالبدعة وقامت عليه الحجة فإنه تترك الصلاة خلفه زجراً له وردعاً، وأولى من ذلك لو كان الرجل ممن يُقْتدى به، فإن في حقه أوجب ألا يصلى خلفه لأن الناس يقتدون به، لكن من لم يعرف حقيقته، وصلى خلفه فصلاته صحيحة كاملة ومجزئة، بل إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في أول أمره لا يصلي على من جيء به وعليه دين، ويقول: {صلوا على صاحبكم} ثم لما وسع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه قال: {أنا ولي كل مسلم}.
فصار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كافلاً لكل مسلم يموت ولا يجد من يقضي عنه دينه، وليس في ماله شيء، فصار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي عليه، وهذه الأعمال كان يعملها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زجراً لأصحابه عن التورط في الدين -مثلاً- فلذلك من حق الإمام الشرعي أو من حق من يقتدى به من أهل العلم أنه يترك الصلاة على من مات مصراً على بدعة -نقول: من حقه، ولا يجب عليه- لينـزجر الناس وليرتدعوا، لكن من لم تقم عليه البينة الشرعية والحكم الشرعي القاطع بأنه كافر، فهذا لا يأخذ أحكام الكفر الظاهرة، فهذا موجز لهذه القضية.